خطبه الجمعه بعنوان أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، جاهزة للطباعة مع الدعاء
لا يقتصر بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم على منهج الاعتقاد والإيمان في القلب فحسب، بل يقوم المجتمع في الإسلام على منهج حياة إنسانية واجتماعية يتجسّد فيها الاعتقاد والإيمان ممارسة عملية في جميع جوانب الحياة ومتطلّباتها الفردية والاجتماعية، حياة تؤسس على التراحم والتكافل والتناصح والمودّة والإحسان والتضحية والإيثار، وجعل التعامل والتخلق بخلق الإسلام، هو المحك الطبيعي لأي التزام يقوم به المسلم نحو ربه، ثم نفسه والآخرين، وعلى رأس تلك القيم الكبرى التي تحكم المجتمع عبادة: «التعاون على البر والتقوى»، التي جعلها الإسلام صفة أساسية من صفات المجتمع المسلم، وحث عليها، يقول الله تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».
ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء حوائج الناس على رأس أولويات هذا التعاون المطلوب، وجعل من قضاء حوائج الناس باباً عظيماً للخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير، وحبب الخير إليهم، هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة». وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
أفضل من الاعتكاف
والإسلام عندما يحث على السعي لقضاء حوائج الناس، فهو يقصد تعميق أواصر الأخوة والتلاحم بين أبناء الأمة، وتيسير أمور المسلمين بالطرق المشروعة، التي لا تعطي الحق لغير مستحق، أو تنصر ظالماً على مظلوم، أو قوياً على ضعيف، إلا أن الكثيرين من أبناء الإسلام لم يتفهموا تعاليم الشريعة في هذا الصدد، فتقاعسوا عن قضاء حوائج الناس، بل إن البعض يتهربون منها، ويتأفف البعض من لجوء الناس إليه لقضاء حوائجهم، خاصة إذا كان ذا وجاهة أو سعة من المال، وهو لا يدري أن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، وأن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولئن تقضي لأخيك حاجة كأن تعلمه أو ترشده أو تحمله أو تقرضه أو تشفع له في خير أفضل عند الله من ثواب اعتكافك شهراً كاملاً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن اعتكف في المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل».
قضاء حوائج الناس
إن خير العبادة ما يتعدى نفعها إلى غير العابد فيكون أجرها أعظم إذا احتسبتها عند الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه».
وحاجة الناس لبعضهم أمر لا بد منه، لكن من الناس من أنعم الله عليه ووسع عليه في الرزق، يستطيع أن يقضي حاجاته من خلال استئجار من يقضيها له، ومنهم من قُدِر عليه رزقه ألا يملك القدرة على ذلك، وقد لا يملك الوقت أيضاً لانشغاله بوظيفة أو عمل طويل ونحو ذلك، ومن الناس من كانت له كلمة عند ذوي السلطان يستطيع بها القيام لإخوانه المسلمين بشفاعة حسنة، ينال أجرها عند الله تعالى، لأن السعي لخدمة الدين وقضاء الحوائج والشفاعة عند ذوي الوجاهة خير من نوافل العبادة، يقول ابن عباس: «من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة».
الوظيفة العامة
والإسلام ينظر إلى الوظيفة العامة باعتبارها أمانة وخدمة عامة، ففي هذا المجال يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة»، بل إن الوظائف وجدت من أجل قضاء حوائج الناس، فالموظف للوظيفة وليس العكس، لكن كثيراً من المسلمين اليوم يجهلون ما في قضاء حوائج إخوانهم المسلمين من الأجر عند الله، أو يعلمون ولكنهم يغفلون عن ذلك، فلا يلتفتون إلى إخوانهم ولا يساعدونهم ولا يشفعون لهم، وينسون أن الله عز وجل هو الذي يقضي حاجة من يقضي حوائج إخوانه كما أخبر صلى الله عليه وسلم: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»، وينسون كذلك أن قضاء حوائج الناس من أسباب دوام النعمة على صاحبها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال».
وقد ورد في الحديث القدسي: «يا ابن آدم أنفق ينفق عليك»، وقيل: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، ولقد أدرك ابن عباس فضل قضاء الحوائج فترك اعتكافه في المسجد ليمشي في حاجة أخ له، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين»، فما أشد حرمان من لم يوفق لقضاء حوائج الناس وأشد منه خسارة وبؤساً من سعى في تعطيل حوائج الناس، ومن جعل الله حاجة الناس إليه فبدأ يتبرم ويضيق بتلك الحاجات.
أبو بكر وعمر
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد بعض الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارا فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثرات عمر تتبع؟، وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني أكثر.
وقضاء الحوائج زكاة أهل المروءات، بل إن من المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، وكان حكيم بن حزام يحزن على اليوم الذي لا يجد فيه محتاجا ليقضي له حاجته، فيقول: ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها.
وأعظم من ذلك أنهم يرون أن صاحب الحاجة منعم، ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني السلام، ورجل وسع لأخ المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إلى إرادة التسليم علي، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي»، فأين نحن من سلفنا الصالح